نـهـضــــة وطــــن

نهضاوية

نهضة وطن

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا



إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

المتابعون

بحث هذه المدونة الإلكترونية

٢٠٠٧/١٠/١٧

الحدث التركي أكبر وأعمق مما نتصور‏,‏ والسلفية العلمانية هي أكثر ما يعكر أجواءه رغم أنها تلعب في الوقت الضائع......
‏‏(1)‏ إن الرأي العام مشغول بحجاب السيدة خير النساء‏ زوجة رئيس الجمهورية .‏
‏ وعند غلاة العلمانيين فإن أدائها للصلوات الخمسة قد تغتفر‏,‏ أما الحجاب فلا تسامح معها ولا غفران‏.‏ وبسبب حجاب رأسها ذاك فإنه لم يسمح لها بأن تلتحق بجامعة أنقرة قبل ربع قرن‏,‏ فتمسكت به ورضيت أن تبقي في البيت‏.‏ وفي ذلك الوقت لم تفطن إلي ما فعلته ابنتها حين التحقت بالجامعة أخيرا‏,‏ إذ تمسكت بحجاب الرأس‏,‏ ولكنها وضعت فوقه باروكة لكي تستمر في الجامعة‏.‏بعدما أصبح عبد الله جول رئيسا للجمهورية تحولت خير النساء إلي قنبلة‏.‏ إذ اعتبر العلمانيون المتطرفون أن دخول سيدة محجبة إلي القصر الجمهوري إعلان عن تقويض النظام العلماني‏.‏ ورغم أنهم احتملوا مكرهين وعلي مضض فكرة أن يجلس في مقعد كمال أتاتورك رجل مثل عبد الله جول يؤدي الصلوات الخمس‏,‏ فإنهم لم يتصوروا مبدأ أن تدخل إلي القصر الجمهوري سيدة محجبة‏,‏ واعتبروا أن مشاركتها في أي مناسبة رسمية كفر بواح بالعلمانية يتعذر احتماله أو قبوله‏.‏‏.‏
صحيح أن العسكر الذي يمثلون السلفية العلمانية قاطعوا حفل تنصيب الرئيس عبد الله جول‏,‏ ورفض رئيس الأركان الجنرال يشار بيوك أنيت تأدية التحية له‏,‏ لكنهم اعتبروا أن حضور زوجته احتفال عيد النصر‏,‏ الذي كان أول مناسبة قومية رسمية حلت بعد التنصيب خطا أحمر‏,‏ فلم يوجهوا إليها الدعوة‏.‏ وقد أراحهم الرجل وامتص غضبهم حين أعلن أنه لن يصحب زوجته في الحفلات الرسمية‏,‏ ثم مازحهم قائلا وأنه هو الرئيس‏,‏ وليست هي‏,‏ ولا غضاضة في حضوره لأنه ليس محجبا‏!‏هذا الكلام لم يوقف اللغط حول الموضوع‏,‏ وإنما تساءل البعض عن موقف السيدة خير النساء حين تسافر مع زوجها إلي الخارج‏,‏ وهل ستحضر حفلات الاستقبال التي ستقام للرجل أم لا؟ وتحدث آخرون عن محاولتها ارتداء حجاب يستوحي الموضة ولا يثير غضب العسكر‏.‏ وقالوا إنها كلفت مصمم أزياء عالميا من أصول تركية يقيم في فيينا عاصمة النمسا منذ عشرين عاما ـ أسمه أتيل كوتوغلو ـ بأن يحل لها مشكلة الحجاب بتصميم يبتكره‏,‏ ولم تعرف بعد نتيجة ذلك المسعي‏.‏
‏(2)‏ المشهد التركي في هذه الزاوية بدا عبثيا وبالغ الدلالة في ذات الوقت‏.‏ وجه العبث فيه أن العسكر الذين اعتبروا أنفسهم حراس العلمانية‏,‏ أصبح شاغلهم الأكبر هو الحفاظ علي الرموز والطقوس‏,‏ من الحجاب إلي مراسم الحفلات الرسمية‏.‏أعني أنهم أصبحوا معنيين بالشكل أكثر من المضمون‏.‏ وكان قادة حزب العدالة من الذكاء بحيث إنهم ركزوا من جانبهم علي الجوهر‏,‏ وتركوا ساحة الطقوس والرموز للعسكر يصولون فيها ويجولون‏.‏ وهو ما بدا تبادلا للأدوار في الصورة النمطية الشائعة لدي كثيرين‏,‏ ممن يأخذون علي أصحاب التوجه الاسلامي عنايتهم بالأشكال‏,‏ ويتباهون بنزوع العلمانيين إلي الاهتمام بقيم التغيير في المجتمع‏.‏ في حين أن العكس تماما حاصل في المشهد التركي الراهن‏.‏ أما دلالة هذا التركيز علي الطقوس والرموز فتتمثل في أن هذه هي المساحة التي بقيت للعسكر‏,‏ بعدما تقلص دورهم بمضي الوقت‏.‏ وبعدما نجح قادة حزب العدالة والتنمية في حشد أكبر إجماع شعبي حولهم‏,‏ الأمر الذي قطع الطريق علي تغول العسكر وأضعف سطوتهم‏.‏ وهم الذين قاموا بثلاثة انقلابات عسكرية في السابق‏(‏ علي مدي السنوات‏1960‏ و‏70‏ و‏80)‏ وفي الانقلاب الثاني أعدم رئيس الجمهورية عدنان مندريس بسبب ما قيل عن مشاعر دينية لديه‏,‏ وهم أيضا من أسقط حكومة نجم الدين أربكان في منتصف التسعينيات من خلال انقلاب سلمي‏.‏ لكنهم هذه المرة لم يستطيعوا ان يفعلوا شيئا أكثر من معاندة رئيس الجمهورية الجديد علي النحو الذي سبقت الاشارة اليه‏,‏ وإصدار بيان عشية انتخابه حذر فيه رئيس الأركان من أن أوكار الشر تسعي في خبث وسرية إلي النيل من النظام العلماني‏.
‏(3‏) حين يكون ذلك غاية ما يستطيعه العسكر في مواجهة عهد جديد صنفه رئيس الأركان ضمن أركان الشر التي تهدد النظام العلماني‏,‏ فمعناه أن ثمة عهدا ظهرت إرهاصاته في الأفق‏,‏ يختلف عن كل العهود التي تعاقبت منذ إقامة الجمهورية قبل ثمانين عاما‏.‏ وليس ذلك مجرد استنتاج‏,‏ ولكنه يمثل أحد أهم حقائق المشهد التركي‏,‏ التي أدركها نفر غير قليل من الباحثين والمعلقين‏,‏ ممن لم يترددوا في وصف الوضع الراهن بأنه بداية ميلاد للجمهورية التركية الثانية‏.‏ وهو المعني الذي عبر عنه بصيغة أخري رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان‏,‏ حين قال إن تركيا أصبحت كطائرة علي مدرج الاقلاع‏,‏ ولن يقف أمامها شيء‏.‏ والعبارة يمكن فهمها علي أنها إعلان عن أن تركيا تشهد انطلاقة جديدة لا يستطيع العسكر إيقافها‏.‏الكلام عن الجمهورية الثانية ليس وليد اليوم‏.‏ فقد ذكر الباحث السوري بكر صدقي في دراسة نشرتها صحيفة الحياة اللندنية‏(28‏ ـ‏8)‏ أن الفكرة أطلقت في عام‏1991,‏ حين كتب أستاذ الاقتصاد البروفيسور محمد ألتان مقالة دعا فيها الي نقد تاريخ الجمهورية القائمة‏,‏ التي بناها مصطفي كمال أتاتوك في عشرينيات القرن الماضي‏.‏ ووصفها بأنها دولة الوصاية العسكرية وتغييب سيادة الشعب‏,‏ الأمر الذي انتهي بإقامة نظام تحكمت فيه الطبقة البيروقراطية العسكرية والمدنية‏.‏ ولأن البروفيسور ألتان دعا أيضا إلي عودة الجيش إلي ثكناته وإلي محاكمة عن الانقلابات العسكرية في البلد‏,‏ فإنه قدم إلي المحاكمة وأتهم بالخيانة الوطنية والعمالة للغرب والتآمر لتقسيم البلاد‏..‏ إلخ‏.‏ لكن أفكاره لم تذهب هباء‏.‏ وإنما كانت بمثابة حجر كبير ألقي في بحيرة النخبة السياسية الراكدة‏,‏ فأثارت جدلا لايزال مستمرا‏,‏ وكما وجدت ناقدين ومعارضين‏,‏ فإنها لقيت آذانا صاغية‏.‏ وأسست قاعدة من المؤيدين الذين ساندوا الفكرة وطوروها حتي تحولت إلي مشروع للتغيير‏,‏ توافق مع مشروع حزب العدالة والتنمية وبرنامجه الذي خاض به الانتخابات‏.‏ من أهم أولئك المؤيدين إضافة الي البروفيسور ألتاناثنان من أبرز الكتاب الأتراك هما جنكيز شاندار واثيين محجوبيان‏.‏الآن يتحدث منظرو الجمهورية الثانية بصوت عال‏,‏ قائلين إن الكمالية حددت أهدافا ستة لمشروعها لم تكن الديمقراطية من بينها‏.‏ وقد تم تقديس الكمالية وفرضها علي الناس من خلال مواد الدستور المتعاقبة التي صاغها العسكر‏.‏ وتم تحريم وتخوين وملاحقة أي نقد يوجه اليها‏.‏ كما حوربت الافكار المختلفة عنها بالتصفيات والملاحقات القضائية والحظر‏,‏ مما أدي إلي شلل الحياة السياسية وتسطيح الثقافة وإعاقة نمو البلاد‏.‏ يقول هؤلاء أيضا إن النهوض بالواقع التركي يتطلب الانتقال من النظام التسلطي الراهن إلي النظام الديمقراطي‏,‏ ومن الاقتصاد الزراعي إلي الانتاجي‏,‏ وذلك يتطلب نزع وصاية العسكر علي السياسة‏,‏ وتغيير الدستور بما يتوافق مع المعايير الدولية للديمقراطية وحقوق الانسان‏,‏ وتمكين دافع الضرائب من مراقبة كيف تنفق الحكومة حصيلتها‏.‏ وهذه دعوة تستهدف قلب العلاقة القائمة بين المجتمع والسلطة رأسا علي عقب‏,‏ بحيث يتحول المجتمع إلي سيد وتصبح الدولة في خدمته‏.‏‏(4)‏ في حين ظل العلمانيون المتطرفون يخوضون معركتهم ضد الحجاب‏,‏ ويتشبثون بميراث الكمالية التي عفا عليه الزمن‏,‏ فإن فكرة الجمهورية الثانية لتجديد النظام التركي والنهوض به كانت تكبر وتكسب المزيد من الأنصار‏.‏ وتزامن ذلك مع ظهور حزب العدالة والتنمية بمشروعه الذي كان يصب في نفس الوعاء‏.‏ وكان من الطبيعي أن يلتقي المشروعان‏,‏ وأن يعتبر متطرفو الجمهورية الثانية أن حزب العدالة هو القوة السياسية التي يمكن الاعتماد عليها لتحقيق هدفهم المنشود‏.‏ ونجح التوافق بين المشروعين لثلاثة أسباب رئيسية هي‏:‏‏*‏ أنهما أصبحا يمثلان استجابة للظرف التاريخي الداعي إلي التغيير في تركيا‏.‏‏*‏ إن الطرفين تعاملا مع بعضهما البعض بغير عقد‏.‏ فدعاة الجمهورية الثانية ـ وهم علمانيون بإمتياز يصنفون ضمن المعتدلين ـ لم يجدوا غضاضة في التوافق مع الحزب بخلقيته الاسلامية وموقفه المعتدل‏.‏ وكانت المصلحة الوطنية هي القاسم المشترك الأعظم بينهما‏.‏ ومن ثم تحلل الطرفان من العقد المسكونة بالخوف والتوجس الشائعة في عالمنا العربي‏.‏‏*‏ أن رموز الطرفين ينتمون إلي جيل الوسط الآتي من خارج دائرة السياسيين المحترفين‏,‏ الذين تلوثوا بممارسات ودسائس وفساد المرحلة السابقة‏.‏تبدي ذلك التوافق بشكل واضح في مسألة ترشيح عبد الله جول لرئاسة الجمهورية‏.‏ ذلك أنه حين بدا أن رجب طيب اردوغان تردد في مسألة الترشيح وفكر في استبدال آخر به‏,‏ لتجنب الصدام مع المؤسسة العسكرية‏,‏ فإن البروفيسور محمد ألتان الأب الروحي لمشروع الجمهورية الثانية‏,‏ أطلق في تصريحات صحفية حملة تأييد لجول‏,‏ وقال صراحة إن عدم ترشيحه سيؤدي إلي استقواء العسكر ويشجعهم علي الانقلاب‏.‏بعد انتخاب عبد الله جول‏,‏ عاد الانسجام المفقود بين رئاسة الجمهورية والحكومة‏,‏ وفقد العسكر حليفهم التقليدي في القصر الجمهوري‏,‏ الأمر الذي فتح الباب واسعا للتقدم علي طريق تحقيق حلم الجمهورية الثانية‏.‏ وهو ما لم تقصر فيه الحكومة التي كانت قد وعدت بإدخال تعديلات علي الدستور تضع الأساس لاحداث التغيير المنشود‏.‏ فشكلت لجنة من الخبراء القانونيين البارزين توشك الآن علي الانتهاء من مهمتها‏,‏ لطرح التعديل علي الاستفتاء العام في أواخر شهر أكتوبر المقبل‏.‏في دراسة للدكتور ابراهيم غانم أستاذ العلوم السياسية وخبير الشئون التركية نشرت بعدد أول سبتمبر من الملف الاستراتيجي الذي يصدره مركز الدراسات بالأهرام‏,‏ عرض لأبرز معالم الدستور الجديد‏,‏ تمثلت في أربعة أمور هي‏:‏‏*‏ انتخاب رئيس الجمهورية بالتصويت المباشر بدلا من أن يكون التصويت مقصورا علي أعضاء البرلمان‏,‏ بحيث تصبح مدة الرئاسة خمس سنوات بدلا من سبع‏,‏ ولا يعاد انتخاب الرئيس لأكثر من مرة واحدة‏.‏‏*‏ الحد من صلاحيات رئيس الجمهورية بحيث تصبح مقصورة علي تعيين المحافظين والسفراء وبعض الأمور البروتوكولية الأخري‏.‏‏*‏ زيادة أعضاء المحكمة العليا من‏11‏ إلي‏17.‏‏*‏ وضع تصرفات الجيش تحت رقابة المؤسسات المدنية وعلي رأسها البرلمان والقضاء‏.‏إن في الحدث التركي الكثير مما يمكن الإفادة منه وتعلمه‏,‏ بشرط أن يتوافر أمران‏,‏ أولهما ديمقراطية حقيقية تقبل بالاحتكام إلي صناديق الانتخاب‏,‏ وثانيهما توافق وطني تتخلي فيه التيارات السياسية عن عقدها ومرارتها التقليدية‏.‏ وفي تجربتنا فإن كل واحد من الشرطين أصعب من الآخر‏.‏

إرهاصـات ميـلاد الجمهوريـة التركيـة الثانيـةبقلم‏:‏ فهمـي هـويـــدي

0 comments: