الحدث التركي أكبر وأعمق مما نتصور, والسلفية العلمانية هي أكثر ما يعكر أجواءه رغم أنها تلعب في الوقت الضائع......
(1) إن الرأي العام مشغول بحجاب السيدة خير النساء زوجة رئيس الجمهورية .
وعند غلاة العلمانيين فإن أدائها للصلوات الخمسة قد تغتفر, أما الحجاب فلا تسامح معها ولا غفران. وبسبب حجاب رأسها ذاك فإنه لم يسمح لها بأن تلتحق بجامعة أنقرة قبل ربع قرن, فتمسكت به ورضيت أن تبقي في البيت. وفي ذلك الوقت لم تفطن إلي ما فعلته ابنتها حين التحقت بالجامعة أخيرا, إذ تمسكت بحجاب الرأس, ولكنها وضعت فوقه باروكة لكي تستمر في الجامعة.بعدما أصبح عبد الله جول رئيسا للجمهورية تحولت خير النساء إلي قنبلة. إذ اعتبر العلمانيون المتطرفون أن دخول سيدة محجبة إلي القصر الجمهوري إعلان عن تقويض النظام العلماني. ورغم أنهم احتملوا مكرهين وعلي مضض فكرة أن يجلس في مقعد كمال أتاتورك رجل مثل عبد الله جول يؤدي الصلوات الخمس, فإنهم لم يتصوروا مبدأ أن تدخل إلي القصر الجمهوري سيدة محجبة, واعتبروا أن مشاركتها في أي مناسبة رسمية كفر بواح بالعلمانية يتعذر احتماله أو قبوله..
صحيح أن العسكر الذي يمثلون السلفية العلمانية قاطعوا حفل تنصيب الرئيس عبد الله جول, ورفض رئيس الأركان الجنرال يشار بيوك أنيت تأدية التحية له, لكنهم اعتبروا أن حضور زوجته احتفال عيد النصر, الذي كان أول مناسبة قومية رسمية حلت بعد التنصيب خطا أحمر, فلم يوجهوا إليها الدعوة. وقد أراحهم الرجل وامتص غضبهم حين أعلن أنه لن يصحب زوجته في الحفلات الرسمية, ثم مازحهم قائلا وأنه هو الرئيس, وليست هي, ولا غضاضة في حضوره لأنه ليس محجبا!هذا الكلام لم يوقف اللغط حول الموضوع, وإنما تساءل البعض عن موقف السيدة خير النساء حين تسافر مع زوجها إلي الخارج, وهل ستحضر حفلات الاستقبال التي ستقام للرجل أم لا؟ وتحدث آخرون عن محاولتها ارتداء حجاب يستوحي الموضة ولا يثير غضب العسكر. وقالوا إنها كلفت مصمم أزياء عالميا من أصول تركية يقيم في فيينا عاصمة النمسا منذ عشرين عاما ـ أسمه أتيل كوتوغلو ـ بأن يحل لها مشكلة الحجاب بتصميم يبتكره, ولم تعرف بعد نتيجة ذلك المسعي.
(2) المشهد التركي في هذه الزاوية بدا عبثيا وبالغ الدلالة في ذات الوقت. وجه العبث فيه أن العسكر الذين اعتبروا أنفسهم حراس العلمانية, أصبح شاغلهم الأكبر هو الحفاظ علي الرموز والطقوس, من الحجاب إلي مراسم الحفلات الرسمية.أعني أنهم أصبحوا معنيين بالشكل أكثر من المضمون. وكان قادة حزب العدالة من الذكاء بحيث إنهم ركزوا من جانبهم علي الجوهر, وتركوا ساحة الطقوس والرموز للعسكر يصولون فيها ويجولون. وهو ما بدا تبادلا للأدوار في الصورة النمطية الشائعة لدي كثيرين, ممن يأخذون علي أصحاب التوجه الاسلامي عنايتهم بالأشكال, ويتباهون بنزوع العلمانيين إلي الاهتمام بقيم التغيير في المجتمع. في حين أن العكس تماما حاصل في المشهد التركي الراهن. أما دلالة هذا التركيز علي الطقوس والرموز فتتمثل في أن هذه هي المساحة التي بقيت للعسكر, بعدما تقلص دورهم بمضي الوقت. وبعدما نجح قادة حزب العدالة والتنمية في حشد أكبر إجماع شعبي حولهم, الأمر الذي قطع الطريق علي تغول العسكر وأضعف سطوتهم. وهم الذين قاموا بثلاثة انقلابات عسكرية في السابق( علي مدي السنوات1960 و70 و80) وفي الانقلاب الثاني أعدم رئيس الجمهورية عدنان مندريس بسبب ما قيل عن مشاعر دينية لديه, وهم أيضا من أسقط حكومة نجم الدين أربكان في منتصف التسعينيات من خلال انقلاب سلمي. لكنهم هذه المرة لم يستطيعوا ان يفعلوا شيئا أكثر من معاندة رئيس الجمهورية الجديد علي النحو الذي سبقت الاشارة اليه, وإصدار بيان عشية انتخابه حذر فيه رئيس الأركان من أن أوكار الشر تسعي في خبث وسرية إلي النيل من النظام العلماني.
(3) حين يكون ذلك غاية ما يستطيعه العسكر في مواجهة عهد جديد صنفه رئيس الأركان ضمن أركان الشر التي تهدد النظام العلماني, فمعناه أن ثمة عهدا ظهرت إرهاصاته في الأفق, يختلف عن كل العهود التي تعاقبت منذ إقامة الجمهورية قبل ثمانين عاما. وليس ذلك مجرد استنتاج, ولكنه يمثل أحد أهم حقائق المشهد التركي, التي أدركها نفر غير قليل من الباحثين والمعلقين, ممن لم يترددوا في وصف الوضع الراهن بأنه بداية ميلاد للجمهورية التركية الثانية. وهو المعني الذي عبر عنه بصيغة أخري رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان, حين قال إن تركيا أصبحت كطائرة علي مدرج الاقلاع, ولن يقف أمامها شيء. والعبارة يمكن فهمها علي أنها إعلان عن أن تركيا تشهد انطلاقة جديدة لا يستطيع العسكر إيقافها.الكلام عن الجمهورية الثانية ليس وليد اليوم. فقد ذكر الباحث السوري بكر صدقي في دراسة نشرتها صحيفة الحياة اللندنية(28 ـ8) أن الفكرة أطلقت في عام1991, حين كتب أستاذ الاقتصاد البروفيسور محمد ألتان مقالة دعا فيها الي نقد تاريخ الجمهورية القائمة, التي بناها مصطفي كمال أتاتوك في عشرينيات القرن الماضي. ووصفها بأنها دولة الوصاية العسكرية وتغييب سيادة الشعب, الأمر الذي انتهي بإقامة نظام تحكمت فيه الطبقة البيروقراطية العسكرية والمدنية. ولأن البروفيسور ألتان دعا أيضا إلي عودة الجيش إلي ثكناته وإلي محاكمة عن الانقلابات العسكرية في البلد, فإنه قدم إلي المحاكمة وأتهم بالخيانة الوطنية والعمالة للغرب والتآمر لتقسيم البلاد.. إلخ. لكن أفكاره لم تذهب هباء. وإنما كانت بمثابة حجر كبير ألقي في بحيرة النخبة السياسية الراكدة, فأثارت جدلا لايزال مستمرا, وكما وجدت ناقدين ومعارضين, فإنها لقيت آذانا صاغية. وأسست قاعدة من المؤيدين الذين ساندوا الفكرة وطوروها حتي تحولت إلي مشروع للتغيير, توافق مع مشروع حزب العدالة والتنمية وبرنامجه الذي خاض به الانتخابات. من أهم أولئك المؤيدين إضافة الي البروفيسور ألتاناثنان من أبرز الكتاب الأتراك هما جنكيز شاندار واثيين محجوبيان.الآن يتحدث منظرو الجمهورية الثانية بصوت عال, قائلين إن الكمالية حددت أهدافا ستة لمشروعها لم تكن الديمقراطية من بينها. وقد تم تقديس الكمالية وفرضها علي الناس من خلال مواد الدستور المتعاقبة التي صاغها العسكر. وتم تحريم وتخوين وملاحقة أي نقد يوجه اليها. كما حوربت الافكار المختلفة عنها بالتصفيات والملاحقات القضائية والحظر, مما أدي إلي شلل الحياة السياسية وتسطيح الثقافة وإعاقة نمو البلاد. يقول هؤلاء أيضا إن النهوض بالواقع التركي يتطلب الانتقال من النظام التسلطي الراهن إلي النظام الديمقراطي, ومن الاقتصاد الزراعي إلي الانتاجي, وذلك يتطلب نزع وصاية العسكر علي السياسة, وتغيير الدستور بما يتوافق مع المعايير الدولية للديمقراطية وحقوق الانسان, وتمكين دافع الضرائب من مراقبة كيف تنفق الحكومة حصيلتها. وهذه دعوة تستهدف قلب العلاقة القائمة بين المجتمع والسلطة رأسا علي عقب, بحيث يتحول المجتمع إلي سيد وتصبح الدولة في خدمته.(4) في حين ظل العلمانيون المتطرفون يخوضون معركتهم ضد الحجاب, ويتشبثون بميراث الكمالية التي عفا عليه الزمن, فإن فكرة الجمهورية الثانية لتجديد النظام التركي والنهوض به كانت تكبر وتكسب المزيد من الأنصار. وتزامن ذلك مع ظهور حزب العدالة والتنمية بمشروعه الذي كان يصب في نفس الوعاء. وكان من الطبيعي أن يلتقي المشروعان, وأن يعتبر متطرفو الجمهورية الثانية أن حزب العدالة هو القوة السياسية التي يمكن الاعتماد عليها لتحقيق هدفهم المنشود. ونجح التوافق بين المشروعين لثلاثة أسباب رئيسية هي:* أنهما أصبحا يمثلان استجابة للظرف التاريخي الداعي إلي التغيير في تركيا.* إن الطرفين تعاملا مع بعضهما البعض بغير عقد. فدعاة الجمهورية الثانية ـ وهم علمانيون بإمتياز يصنفون ضمن المعتدلين ـ لم يجدوا غضاضة في التوافق مع الحزب بخلقيته الاسلامية وموقفه المعتدل. وكانت المصلحة الوطنية هي القاسم المشترك الأعظم بينهما. ومن ثم تحلل الطرفان من العقد المسكونة بالخوف والتوجس الشائعة في عالمنا العربي.* أن رموز الطرفين ينتمون إلي جيل الوسط الآتي من خارج دائرة السياسيين المحترفين, الذين تلوثوا بممارسات ودسائس وفساد المرحلة السابقة.تبدي ذلك التوافق بشكل واضح في مسألة ترشيح عبد الله جول لرئاسة الجمهورية. ذلك أنه حين بدا أن رجب طيب اردوغان تردد في مسألة الترشيح وفكر في استبدال آخر به, لتجنب الصدام مع المؤسسة العسكرية, فإن البروفيسور محمد ألتان الأب الروحي لمشروع الجمهورية الثانية, أطلق في تصريحات صحفية حملة تأييد لجول, وقال صراحة إن عدم ترشيحه سيؤدي إلي استقواء العسكر ويشجعهم علي الانقلاب.بعد انتخاب عبد الله جول, عاد الانسجام المفقود بين رئاسة الجمهورية والحكومة, وفقد العسكر حليفهم التقليدي في القصر الجمهوري, الأمر الذي فتح الباب واسعا للتقدم علي طريق تحقيق حلم الجمهورية الثانية. وهو ما لم تقصر فيه الحكومة التي كانت قد وعدت بإدخال تعديلات علي الدستور تضع الأساس لاحداث التغيير المنشود. فشكلت لجنة من الخبراء القانونيين البارزين توشك الآن علي الانتهاء من مهمتها, لطرح التعديل علي الاستفتاء العام في أواخر شهر أكتوبر المقبل.في دراسة للدكتور ابراهيم غانم أستاذ العلوم السياسية وخبير الشئون التركية نشرت بعدد أول سبتمبر من الملف الاستراتيجي الذي يصدره مركز الدراسات بالأهرام, عرض لأبرز معالم الدستور الجديد, تمثلت في أربعة أمور هي:* انتخاب رئيس الجمهورية بالتصويت المباشر بدلا من أن يكون التصويت مقصورا علي أعضاء البرلمان, بحيث تصبح مدة الرئاسة خمس سنوات بدلا من سبع, ولا يعاد انتخاب الرئيس لأكثر من مرة واحدة.* الحد من صلاحيات رئيس الجمهورية بحيث تصبح مقصورة علي تعيين المحافظين والسفراء وبعض الأمور البروتوكولية الأخري.* زيادة أعضاء المحكمة العليا من11 إلي17.* وضع تصرفات الجيش تحت رقابة المؤسسات المدنية وعلي رأسها البرلمان والقضاء.إن في الحدث التركي الكثير مما يمكن الإفادة منه وتعلمه, بشرط أن يتوافر أمران, أولهما ديمقراطية حقيقية تقبل بالاحتكام إلي صناديق الانتخاب, وثانيهما توافق وطني تتخلي فيه التيارات السياسية عن عقدها ومرارتها التقليدية. وفي تجربتنا فإن كل واحد من الشرطين أصعب من الآخر.
0 comments:
إرسال تعليق