يتفق عدد من المحللين الإسرائيليين علي أن التفكير الاستراتيجي يري أن التهديد الأكبر لإسرائيل ولوجودها, أصبح يمثله أي احتمال لتحديث الدول العربية ، وإن القوة العسكرية لم تعد وحدها الحاسمة في وضع ميزان القوي الذي يعدله في ظروف هذا العصر, نهضة للتقدم اقتصاديا, ويصحب هذا بالطبع تغيير داخلي في التنمية البشرية, والرقي بالإنسان ومهاراته وأدائه, بدءا بثورة في النظام التعليمي وسياسيا بالإصلاح السياسي, وبمشاركة ديمقراطية من الشعوب في القرار السياسي.
بعض الكتاب الإسرائيليين كانوا قد أرجعوا أحد الأسباب الرئيسية لقبول إسرائيل عملية السلام....................... إلي ما ظهر عقب التحولات الدولية1989, وزوال الاتحاد السوفيتي وسقوط النظام الشمولي 1991,
وبدء عصر جديد أساسه وفلسفته الديمقراطية, من أن هناك احتمالا في أن يتماشي مع ذلك التغيير الداخلي الكبير في العالم العربي وتحديثه.
ولما كانت عناصر الاستمرارية والثبات في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي هي الغالبة علي عوامل التغيير, بالنظر إلي ما يحكم هذه الاستراتيجية من معتقدات أيديولوجية مترسخة في المشروع الصهيوني التوسعي بعد إقامة دولة إسرائيل, فإن معظم مبادراتها للحرب والسلام كانت تعكس هذه الاستمرارية, ابتداء من مقولة بن جوريون أننا لسنا مستعدين للسلام قبل إتمام أهداف إسرائيل من قيامها,
وأيضا ما قاله شارون " من أن حرب48 لم تنته بعد".
لهذا نجد أن ما يمارس من سياسات مع تنوع الحكومات, خاصة منذ انقلاب نيتانياهو علي عملية السلام عام1996, ومرورا بباراك وشارون ثم أولمرت, كله ممتد إلي أصل الفكر الاستراتيجي لقيام الدولة اليهودية, وما بعد قيامها, والذي ظل ينظر إلي التقدم وتحديث الدول العربية علي أنه هو التهديد الحقيقي والخطر الفعلي, وهو تفكير متأصل في المشروع الصهيوني لقيام الدولة.وهذا كله يصبح أكثر وضوحا حين ننظر إليه من خلال رؤية معاصرة صاحبها شلومو بن آمي وزير خارجية إسرائيل الأسبق, الذي يشرح هذا التفكير الاستراتيجي في كتابه الذي صدر منذ عام بعنوان ندوب الحرب وجراح السلام: التراجيديا العربية الإسرائيلية.وفي كتابه يرجع بن آمي أسباب الهجوم الإسرائيلي علي مصر في يونيو67 إلي الخوف من أن ينجح عبدالناصر في تحديث العالم العربي.
ويقول بن آمي في كتابه: بالرغم من شكوي إسرائيل من أن تخلف المجتمعات العربية هو سبب عدم قدرتها علي إقامة سلام مع إسرائيل, فإنه كان يوجد تحت السطح في إسرائيل تيار خفي من الارتياح لهذه الحالة العربية, وتخوف مستتر من احتمال نجاح العالم العربي في التحديث.
وبن جوريون نفسه اعترف في مذكراته قبيل حرب67 بقوله: كنت دائما خائفا من إمكان ظهور شخصية بين الحكام العرب مثل أتاتورك الذي استطاع بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولي إيقاظ روح شعبه, وتغيير الشخصية التركية, وتحويلها إلي دولة متقدمة.كانت الحسابات الإسرائيلية تضع علي قمة أسباب قلقها تجاه ميزان القوي بينها وبين الدول العربية, أن تشهد هذه الدول عملية تحديث, ونهضة, وتقدما سياسيا واجتماعيا واقتصاديا يكون من شأنه تعديل ميزان القوي لغير مصلحة إسرائيل.
صحيح أن حرصها علي رجحان كفتها عسكريا هو الشغل الشاغل لها, لكن لم يغب عن تقديراتها دائما أن تحديث الدول العربية بمقاييس العصر هو الذي يمثل العنصر الأكثر خطورة علي المدي الطويل, الذي قد يقلب ميزان المواجهة بين الجانبين سلما أو حربا.إلا أن الحسابات الاستراتيجية الإسرائيلية وجدت أن مخاوفها وتوقعاتها لم تتحقق في المرتين, مرة قبيل عام1967 حيث كان النظام السياسي يحمل عوامل ضعفه ذاتيا, وكان ما به من عناصر قوة يقابلها ويتصادم معها ما به من عناصر ضعف.
فعبد الناصر من ناحية لديه مشروع وطني نجح في إيقاظ وحشد الحس الجماهيري, وإشاعة اقتناع عام بالحلم القومي, وجعل الجماهير تعيش حلمها الذي يصور لها الغد آتيا ومعه القوة والتقدم والازدهار.وفي المقابل كان النظام السياسي يفتقد الأساس المتين الذي يرتكز عليه ويحميه من أي هزات أو انتكاسات, وهو الديمقراطية.
والمرة الثانية التي لم تتحقق فيها مخاوف إسرائيل كانت عقب تحولات النظام الدولي عام89, والخوف من إمساك الدول العربية بمفاتيح العصر الذي تغير, وبأن الديمقراطية لم تعد فقط شكل نظام حكم, بل هي بوابة الدخول إلي التنمية والقدرة الاقتصادية التنافسية, وصنع مكانة الدولة ونفوذها إقليميا ودوليا.وتبقي العلاقة مع إسرائيل المتأرجحة من جانبها مرة بقبول عملية السلام, ومرات بالخروج عليها, ومحاولات التملص منها, أسيرة ميزان القوي بين الجانبين, والذي يحكمه ويحسم وضع كفتيه, القدرة الذاتية, عن طريق تحديث الدول العربية في جميع مجالات وقطاعات الحياة.